فصل: اختلاف العلماء في معنى السلطان في هذه الآية‏

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن **


ومعنى كلام صاحب المراقي‏:‏ أنه يقدم محتمل اللفظ الراجح على المحتمل المرجوح، كالتَّأصل، فإنه يقدم على الزيادة‏:‏ نحو‏:‏ ‏{‏لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ‏}‏ يحتمل كون الكاف زائدة،

ويحتمل أنها غير زائدة‏.‏ والمراد بالمثل الذات‏.‏ كقول العرب‏:‏ مثلك لا يفعل هذا‏.‏ يعنون أنت لا ينبغي لك أن تفعل هذا‏.‏ فالمعنى‏:‏ ليس كالله شيء‏.‏ ونظيره من إطلاق المثل وإرادة الذات ‏{‏وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ‏}‏ أي على نفس القرآن لا شيء آخر مماثل له، وقوله‏:‏ ‏{‏مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ‏}‏ أي كمن هو في الظلمات‏.‏ وكالاستقلال، فإنه يقدَّم على الإضمار‏.‏ كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ‏}‏‏.‏ فكثير من العلماء يضمرون قيودًا غير مذكورة فيقولون‏:‏ أن يقتلو إذا قتلوا، أو يصلبوا إذا قتلوا وأخذوا المال، أو تقطع أيديهم وأرجلهم إذا أخذوا المال ولم يقتلوا‏.‏‏.‏ الخ‏.‏

فالمالكية يرجحون أن الإمام مخير بين المذكورات مطلقًا‏.‏ لأن استقلال اللفظ أرجح من إضمار قيود غير مذكورة‏.‏ لأن الأصل عدمها حتى تثبت بدليل‏.‏ كما أشرنا إليه سابقًا ‏(‏في المائدة‏)‏ وكذلك التأسيس يقدم على التأكيد وهو محل الشاهد‏.‏ كقوله‏:‏ ‏{‏فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ‏}‏ ‏(‏في سورة الرحمن‏)‏، وقوله‏:‏ ‏{‏وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ‏}‏ ‏(‏في المرسلات‏)‏‏.‏ قيل‏:‏ تكرار اللفظ فيهما توكيد، وكونه تأسيسًا أرجح لما ذكرنا‏.‏ فتحمل الآلاء في كل موضع على ما تقدم‏.‏ قيل‏:‏ لفظ ذلك التكذيب فلا يتكرر منها لفظ‏.‏ وكذا يقال ‏(‏في سورة المرسلات‏)‏ فيحمل على المكذبين بما ذكر، قيل كل لفظ الخ‏.‏ فإذا علمت ذلك فاعلم ـ أنا إن حملنا الحياة الطيبة في الآية على الحياة الدنيا كان ذلك تأسيسًا‏.‏ وإن حملناها على حياة الجنة تكرر ذلك مع قوله بعده‏:‏ ‏{‏وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم‏}‏‏.‏ لأن حياة الجنة الطيبة هي أجرهم الذي يجزونه‏.‏

وقال أبو حيان ‏(‏في البحر‏)‏‏:‏ والظاهر من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً‏}‏ أن ذلك في الدنيا‏.‏ وهو قول الجمهور‏.‏ ويدل عليه قوله ‏{‏وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم‏}‏ يعني في الآخرة‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ‏}‏‏.‏ أظهر القولين في هذه الآية الكريمة‏:‏ أن الكلام على حذف الإرادة‏.‏ أي فإذا أردت قراءة القرآن فاستعذ بالله‏.‏‏.‏ الآية‏.‏ وليس المراد أنه إذا قرأ القرآن وفرغ من قراءته استعاذ بالله من الشيطان كما يفهم من ظاهر الآية، وذهب إليه بعض أهل العلم‏.‏ والدليل على ما ذكرنا تكرر حذف الإرادة في القرآن وفي كلام العرب لدلالة المقام عليها‏.‏ كقوله‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ‏}‏، أي أردتم القيام إليها كما هو ظاهر‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلَا تَتَنَاجَوْا بِالْإِثْمِ‏}‏‏.‏ أي إذ أردتم أن تتناجوا فلا تتناجوا بالإثم‏.‏ لأن النهي إنما هو عن أمر مستقبل يراد فعله، ولا يصح النهي عن فعل مضى وانقضى كما هو واضح‏.‏

وظاهر هذه الآية الكريمة‏:‏ أن الاستعاذة من الشيطان الرجيم واجبة عند القراءة‏.‏ لأن صيغة افعل للوجوب كما تقرر في الأصول‏.‏

وقال كثير من أهل العلم‏:‏ إن الأمر في الآية للندب والاستحباب، وحكى عليه الإجماع أبو جعفر بن جرير وغيره من الأئمة، وظاهر الآية أيضًا‏:‏ الأمر بالاستعاذة عند القراءة في الصلاة لعموم الآية‏.‏ والعلم عند الله تعالى‏.‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُم بِهِ مُشْرِكُونَ‏}‏‏.‏

ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة‏:‏ أن الشيطان ليس له سلطان على المؤمنين المتوكلين على الله، وأن سلطانه إنما هو على أتباعه الذين يتولَّونه، والذين هم به مشركون‏.‏

وبين هذا المعنى في غير هذا الموضع، كقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{‏لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلاً‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{‏وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِم مِّن سُلْطَانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَن يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{‏وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي‏}‏‏.‏

اختلاف العلماء في معنى السلطان في هذه الآية‏.‏

فقال أكثر أهل العلم‏:‏ هو الحجة، أي ليس للشيطان عليهم حجة فيما يدعوهم إليه من عبادة الأوثان‏.‏

وقال بعضهم‏:‏ ليس له سلطان عليهم‏.‏ أي تسلط وقدرة على أن يوقعهم في ذنب لا توبة منه‏.‏ وقد قدمنا هذا‏.‏ والمراد‏:‏ بـ ‏{‏الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ‏}‏ الذين يطيعونه فيوالونه بالطاعة‏.‏

وأظهر الأقوال في قوله‏:‏ ‏{‏هُم بِهِ مُشْرِكُونَ‏}‏ أن الضمير عائد إلى الشيطان لا إلى الله‏.‏ ومعنى كونهم مشركين به هو طاعتهم له في الكفر والمعاصي‏.‏ كما يدل عليه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لَّا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ‏}‏، وقوله عن إبراهيم‏:‏ ‏{‏يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ‏}‏ إلى غير ذلك من الآيات‏.‏ وأما سلطانه على الذين يتولونه فهو ما جعلوه له على أنفسهم من الطاعة والاتباع والموالاة، بغير موجب يستوجب ذلك‏.‏

تنبيه

فإنه قيل‏:‏ أثبت الله للشيطان سلطانًا على أوليائه في آيات‏.‏ كقوله هنا ‏{‏إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ‏}‏ فالاستثناء يدل على أن له سلطانًا على من اتبعه من الغاوين‏:‏ مع أنه نفى عنه السلطان عليهم في آيات أخر‏.‏ كقوله‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقاً مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِم مِّن سُلْطَانٍ‏}‏‏.‏

وقوله تعالى حاكيًا عنه مقررًا له‏:‏ ‏{‏فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي‏}‏‏.‏

فالجواب هو‏:‏ أن السلطان الذي أثبته له عليهم غير السلطان الذي نفاه، وذلك من وجهين‏:‏

الأول ـ أن السلطان المثبت له هو سلطان إضلاله لهم بتزيينه، والسلطان المنفي هو سلطان الحجة‏.‏ فلم يكن لإبليس عليهم من حجة يتسلط بها، غير أَنه دعاهم فأجابوه بلا حجة ولا برهان‏.‏ وإطلاق السلطان على البرهان كثير في القرآن‏.‏

الثاني ـ أن الله لم يجعل له عليهم سلطانًا ابتداء البتة، ولكنهم هم الذين سلَّطوه على أنفسهم بطاعاته ودخولهم في حزبه، فلم يتسلط عليهم بقوة‏.‏ لأن الله يقول‏:‏ ‏{‏إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً‏}‏‏.‏ وإنما تسلط عليهم بإرادتهم واختيارهم‏.‏

ذكر هذا الجواب بوجهيه العلامة ابن القيم رحمه الله‏.‏ وقد بينا هذا في كتابنا ‏(‏دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب‏)‏‏.‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَّكَانَ آيَةٍ وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُواْ إِنَّمَا أَنتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ‏}‏‏.‏ ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة‏:‏ أنه إذا بدل آية مكان آية، بأن نسخ آية أو أنساها، وأتى بخير منها أو مثلها ـ أن الكفار يجعلون ذلك سببًا للطعن في الرسول صلى الله عليه وسلم‏.‏ بادعاء أنه كاذب على الله، مفتر عليه‏.‏ زعمًا منهم أن نسخ الآية بالآية يلزمه البداء، وهو الرأي المجدد، وأن ذلك مستحيل على الله‏.‏ فيفهم عندهم من ذلك أن النَّبي صلى الله عليه وسلم مفتر على الله، زاعمين أنه لو كان من الله لأقره وأثبته، ولم يطرأ له فيه رأي متجدد حتى ينسخه‏.‏

والدليل على أن قوله‏:‏ ‏{‏بَدَّلْنَا آيَةً مَّكَانَ آيَةٍ‏}‏ معناه‏:‏ نسخنا آية وأنسيناها ـ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{‏سَنُقْرِؤُكَ فَلَا تَنسَى إِلَّا مَا شَاء اللَّهُ‏}‏ أي أن تنساه‏.‏

والدليل على أنه إن نسخ آية أو أنساها، لا بد أن يأتي ببدل خبر منها أو مثلها ـ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا‏}‏، وقوله هنا ‏{‏وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَّكَانَ آيَةٍ‏}‏‏.‏

وما زعمه المشركون واليهود‏:‏ من أن النسخ مستحيل على الله لأنه يلزمه البداء، وهو الرأي المتجدد ـ ظاهر السقوط، واضح البطلان لكل عاقل‏.‏ لأن النسخ لا يلزمه البداء البتة، بل الله جل وعلا يشرِّع الحكم وهو عالم بأن مصلحته ستنقضي في الوقت المعين، وأنه عند ذلك الوقت ينسخ ذلك الحكم ويبدله بالحكم الجديد الذي فيه المصلحة‏.‏ فإذا جاء ذلك الوقت المعين أنجز جل وعلا ما كان في علمه السابق من نسخ ذلك الحكم، الذي زالت مصلحته بذلك الحكم الجديد الذي فيه المصلحة‏.‏ كما أن حدوث المرض بعد الصحة وعكسه، وحدوث الغنى بعد الفقر وعكسه، ونحو ذلك لا يلزم فيه البداء‏.‏ لأن الله عالم بأن حكمته الإلهية تقتضي ذلك التغيير في وقته المعين له، على وفق ما سبق في العلم الأزلي كما هو واضح‏.‏

وقد أشار جل وعلا إلى علمه بزوال المصلحة من المنسوخ، وتمحضها في الناسخ بقوله هنا‏:‏ ‏{‏وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللّهَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{‏سَنُقْرِؤُكَ فَلَا تَنسَى إِلَّا مَا شَاء اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى‏}‏ فقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى‏}‏ بعد قوله‏:‏ ‏{‏إِلَّا مَا شَاء اللَّهُ‏}‏ يدل على أنه أعلم بما ينزل‏.‏ فهو عالم بمصلحة الإنساء، ومصلحة تبديل الجديد من الأول المنسي‏.‏

مسائل تتعلق بهذه الآية الكريمة‏:‏

المسألة الأولى ـ لا خلاف بين المسلمين في جواز النسخ عقلًا وشرعًا، ولا في وقوعه فعلًا، ومن ذكر عنه خلاف في ذلك كأبي مسلم الأصفهاني ـ فإنه إنما يعني أن النسخ تخصيص لزمن الحكم بالخطاب الجديد‏.‏ لأن ظاهر الخطاب الأول استمرار الحكم في جميع الزمن‏.‏ والخطاب الثاني دلَّ على تخصيص الحكم الأول بالزمن الذي قبل النسخ‏.‏ فليس النسخ عنده رفعًا للحكم الأول‏.‏ وقد أشار إليه في مراقي السعود بقوله في تعريف النسخ‏:‏ رفع لحكم أو بيان الزمن بمحكم القرآن أو بالسنن

وإنما خالف فيه اليهود وبعض المشركين، زاعمين أنه يلزمه البداء كما بينا‏.‏ ومن هنا قالت اليهود‏:‏ إن شريعة موسى يستحيل نسخها‏.‏

المسألة الثانية ـ لا يصح نسخ حكم شرعي إلا بوحي من كتاب أو سنة‏.‏ لأن الله جلَّ وعلا يقول‏:‏ ‏{‏وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَـذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَاء نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ‏}‏ ـ وبه تعلم أن النسخ بمجرد العقل ممنوع، وكذلك لا نسخ بالإجماع‏.‏ لأن الإجماع لا ينعقد إلا بعد وفاته صلى الله عليه وسلم‏:‏ لأنه ما دام حيًا فالعبرة بقوله وفعله وتقريره صلى الله عليه وسلم، ولا حجة معه في قول الأمة، لأن اتِّباعه فرض على كل أحد ولذا لا بد في تعريف الإجماع من التقييد بكونه بعد وفاته صلى الله عليه وسلم، كما قال صاحب المراقي في تعريف الإجماع‏:‏ وهو الاتفاق من مجتهدي الأمة من بعد وفاة أحمد

وبعد وفاته ينقطع النسخ‏.‏ لأنه تشريع، ولا تشريع البتة بعد وفاته صلى الله عليه وسلم، وإلى كون العقل والإجماع لا يصح النسخ بمجردهما ـ أشار في مراقي السعود أيضًا بقوله في النسخ‏:‏ فلم يكن بالعقل أو مجرد الإجماع بل ينمى إلى المستند

وقوله ‏"‏بل ينمى إلى المستند‏"‏ يعني أنه إذا وجد في كلام العلماء أن نصًا منسوخ بالإجماع، فإنهم إنما يعنون أنه منسوخ بالنص الذي هو مستند الإجماع، لا بنفس الإجماع‏.‏ لما ذكرنا من منع النسخ به شرعًا‏.‏ وكذلك لا يجوز نسخ الوحي بالقياس على التحقيق، وإليه أشار في المراقي بقوله‏:‏ ومنه نسخ النص بالقياس هو الذي ارتضاه جل الناس

أي وهو الحق‏.‏

المسألة الثالثة ـ اعلم أن ما يقوله بعض أهل الأصول من المالكية والشافعية وغيرهم‏:‏ من جواز النسخ بلا بدل، وعزاه غير واحد للجمهور، وعليه درج في المراقي بقوله‏:‏ وينسخ الخف بما له ثقل وقد يجيء عاريا من البدل

أنه باطل بلا شك‏.‏ والعجب ممن قال به العلماء الأجلاء مع كثرتهم، مع أنه مخالف مخالفة صريحة لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا‏}‏ فلا كلام البتة لأحد بعد كلام الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللّهِ قِيلاً‏}‏، ‏{‏وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللّهِ حَدِيثاً‏}‏، ‏{‏أَأَنتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللّهُ‏}‏ فقد ربط جل وعلا في هذه الآية الكريمة بين النسخ، وبين الإتيان ببدل المنسوخ على سبيل الشرط والجزاء‏.‏ ومعلوم أن الصدق والكذب في الشرطية يتواردان على الربط‏.‏ فيلزم أنه كلما وقع النسخ وقع الإتيان بخير من المنسوخ أو مثله كما هو ظاهر‏.‏

وما زعمه بعض أهل العلم من أن النسخ وقع في القرآن بلا بدل وذلك في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً‏}‏ فإنه نسخ بقوله‏:‏ ‏{‏أَأَشْفَقْتُمْ أَن تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ‏}‏، ولا بدل لهذا المنسوخ‏.‏

فالجواب ـ أن له بدلًا، وهو أن وجوب تقديم الصدقة أمام المناجاة لما نسخ بقي استحباب الصدقة وندبها، بدلًا من الوجوب المنسوخ كما هو ظاهر‏.‏

المسألة الرابعة ـ اعلم أنه يجوز نسخ الأخف بالأثقل، والأثقل بالأخف‏.‏ فمثال نسخ الأخف بالأثقل‏:‏ نسخ التخيير بين الصوم والإطعام المنصوص عليه في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ‏}‏ بأثقل منه، وهو تعيين إيجاب الصوم في قوله‏:‏ ‏{‏فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ‏}‏‏.‏ ونسخ حبس الزواني في البيوت المنصوص عليه بقوله‏:‏ ‏{‏فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ‏}‏، بأثقل منه وهو الجلد والرجم المنصوص على الأول منهما في قوله‏:‏ ‏{‏الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ‏}‏، وعلى الثاني منهما بآية الرجم التي نسخت تلاوتها وبقي حكمها ثابتًا، وهي قوله‏:‏ ‏"‏الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموها البتة نكالًا من الله والله عزيز حكيم‏"‏ ومثال نسخ الأثقل بالأخف‏:‏ نسخ وجوب مصابرة المسلم عشرة من الكفار المنصوص عليه في قوله‏:‏ ‏{‏إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن‏}‏، بأخف منه وهو مصابرة المسلم اثنين منهم المنصوص عليه في قوله‏:‏ ‏{‏الآنَ خَفَّفَ اللّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِن يَكُن مِّنكُم مِّئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ‏}‏‏.‏ وكنسخ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللّهُ‏}‏، بقوله‏:‏ ‏{‏لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا‏}‏‏.‏ فإنه نسخ للأثقل بالأخف كما هو ظاهر‏.‏ وكنسخ اعتداد المتوفى عنها بحول، المنصوص عليه في قوله‏:‏

{‏وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً وَصِيَّةً لِّأَزْوَاجِهِم مَّتَاعاً إِلَى الْحَوْلِ‏}‏، بأخف منه وهو الاعتداد بأربعة أشهر وعشر، المنصوص عليه في قوله‏:‏ ‏{‏وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً‏}‏‏.‏

تنبيه

اعلم ـ أن في قوله جل وعلا‏:‏ ‏{‏نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا‏}‏ إشكالًا من جهتين‏:‏

الأولى ـ أن يقال‏:‏ إما أن يكون الأثقل خيرًا من الأخف‏.‏ لأنه أكثر أجرًا، أو الأخف خير من الأثقل لأنه أسهل منه، وأقرب إلى القدرة على الامتثال‏.‏ وكون الأثقل خيرًا يقتضي منع نسخه بالأخف، كما أن كون الأخف خيرًا يقتضي منع نسخه بالأثقل‏.‏ لأن الله صرح بأنه يأتي بما هو خير من المنسوخ أو مماثل له، لا ما هو دونه‏.‏ وقد عرفت‏:‏ أن الواقع جواز نسخ كل منهما بالآخر‏.‏

الجهة الثانية من جهتي الإشكال في قوله ‏{‏أَوْ مِثْلِهَا‏}‏ لأنه يقال‏:‏ ما الحكمة في نسخ المثل ليبدل منه مثله‏؟‏ وأي مزية للمثل على المثل حتى ينسخ ويبدل منه‏؟‏

والجواب عن الإشكال الأول ـ هو أن الخيرية تارة تكون في الأثقل لكثرة الأجر، وذلك فيما إذا كان الأجر كثيرًا جدًا والامثتال غير شديد الصعوبة، كنسخ التخيير بين الإطعام والصوم بإيجاب الصوم‏.‏ فإن في الصوم أجرًا كثيرًا كما في الحديث القدسي ‏"‏إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به‏"‏، والصائمون من خيار الصابرين‏.‏ لأنهم صبروا لله عن شهوة بطونهم وفروجهم‏.‏ والله يقول‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ‏}‏ ومشقة الصوم عادية ليس فيها صعوبة شديدة تكون مظنة لعدم القدرة على الامتثال، وإن عرض ما يقتضي ذلك كمرض أو سفر‏.‏ فالتسهيل برخصة الإفطار منصوص بقوله ‏{‏فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ‏}‏‏.‏ وتارة تكون الخيرية في الأخف، وذلك فيما إذا كان الأثقل المنسوخ شديد الصعوبة بحيث يعسر فيه الامتثال‏.‏ فإن الأخف يكون خيرًا منه، لأن مظنة عدم الامتثال تعرض المكلف للوقوع فيما لا يرضى الله، وذلك كقوله‏:‏ ‏{‏وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ‏}‏ فلو لم تنسخ المحاسبة بخطرات القلوب لكان الامتثال صعبًا جدًا، شاقًا على النفوس، لا يكاد يسلم من الإخلال به، إلى من سلمه الله تعالى ـ فلاشك أن نسخ ذلك بقوله‏:‏ ‏{‏لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا‏}‏ خير للمكلف من بقاء ذلك الحكم الشاق، وهكذا‏.‏

والجواب عن الإشكال الثاني ـ هو أن قوله ‏{‏أَوْ مِثْلِهَا‏}‏ يراد به مماثلة الناسخ والمنسوخ في حد ذاتيهما‏.‏ فلا ينافي أن يكون الناسخ يستلزم فوائد خارجة عن ذاته يكون يها خيرًا من المنسوخ، فيكون باعتبار ذاته مماثلًا للمنسوخ، وباعتبار ما يستلزمه من الفوائد التي لا توجد في المنسوخ خيرًا من المنسوخ‏.‏

وإيضاحه ـ أن عامة المفسرين يمثلون لقوله ‏{‏أَوْ مِثْلِهَا‏}‏ بنسخ استقبال بيت المقدس باستقبال بيت الله الحرام‏.‏ فإن هذا الناسخ والمنسوخ بالنظر إلى ذاتيهما متماثلان‏.‏ لأن كل واحد منهما جهة من الجهات، وهي في حقيقة أنفسها متساوية، فلا ينافي أن يكون الناسخ مشتملًا على حكم خارجة عن ذاته تصيره خيرًا من المنسوخ بذلك الاعتبار‏.‏ فإن استقبال بيت الله الحرام تلزمه نتائج متعددة مشار لها في القرآن ليست موجودة في استقبال بيت المقدس، منها ـ أنه يسقط به احتجاج كفار مكة على النَّبي صلى الله عليه وسلم بقولهم‏:‏ تزعم أنك على ملة إبراهيم ولا تستقبل قبلته وتسقط به حجة اليهود بقولهم‏:‏ تعيب ديننا وتستقبل قبلتنا، وقبلتنا من ديننا وتسقط به أيضًا حجة علماء اليهود فإنهم عندهم في التوراة‏:‏ أنه صلى الله عليه وسلم سوف يؤمر باستقبال بيت المقدس، ثم يؤمر بالتحول عنه إلى استقبال بيت الله الحرام‏.‏ فلو لم يؤمر بذلك لاحتجوا عليه بما عندهم في التوراة من أنه سيحول إلى بيت الله الحرام، والفرض أنه لم يحول‏.‏

وقد أشار تعالى إلى هذه الحكم التي هي إدحاض هذه الحجج الباطلة بقوله‏:‏ ‏{‏وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ‏}‏ ثم بين الحكمة بقوله‏:‏ ‏{‏لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ‏}‏‏.‏ وإسقاط هذه الحجج من الدواعي التي دعته صلى الله عليه وسلم إلى حب التحويل إلى بيت الله الحرام المشار إليه في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاء فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ‏}‏‏.‏

المسألة الخامسة ـ اعلم أن النسخ على ثلاثة أقسام‏:‏

الأول ـ نسخ التلاوة والحكم معًا، ومثاله ما ثبت في صحيح مسلم من حديث عائشة رضي الله عنها قالت‏:‏ ‏"‏كان فيما أنزل من القرآن عشر رضعات معلومات يحرمن‏.‏‏.‏‏"‏ الحديث‏.‏ فآية عشر رضعات منسوخة التلاوة والحكم إجماعًا‏.‏

الثاني ـ نسخ التلاوة وبقاء الحكم، ومثاله آية الرجم المذكورة آنفًا، وآية خمس رضعات على قول الشافعي وعائشة ومن وافقهما‏.‏

الثالث ـ نسخ الحكم وبقاء التلاوة، وهو غالب ما في القرآن من المنسوخ‏.‏ كآية المصابرة، والعدة، والتخيير بين الصوم والإطعام، وحبس الزواني‏.‏ كما ذكرنا ذلك كله آنفًا‏.‏

المسألة السادسة ـ اعلم أنه لا خلاف بين العلماء في نسخ القرآن بالقرآن، ونسخ السنة بمتواتر السنة‏.‏ واختلفوا في نسخ القرآن بالسنة كعكسه، وفي نسخ المتواتر بأخبار الآحاد‏.‏ وخلافهم في هذه المسائل معروف‏.‏ وممن قال‏:‏ بأن الكتاب لا ينسخ إلا بالكتاب، وأن السنة لا تنسخ إلا بالسنة الشافعي رحمه الله‏.‏

قال مقيده عفا الله عنه‏:‏ الذي يظهر لي ـ والله تعالى أعلم ـ هو أن الكتاب والسنة كلاهما ينسخ بالآخر‏.‏ لأن الجميع وحي من الله تعالى‏.‏ فمثال نسخ السنة بالكتاب‏:‏ نسخ استقبال بيت المقدس باستقبال بيت الله الحرام‏.‏ فإن استقبال بيت المقدس أولًا إنما وقع بالسنة لا بالقرآن، وقد نسخه الله بالقرآن في قوله‏:‏ ‏{‏فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا‏}‏‏.‏ ومثال نسخ الكتاب بالسنة‏:‏ نسخ آية عشر رضعات تلاوة وحكمًا بالسنة المتواترة‏.‏ ونسخ سورة الخلع وسورة الحفد تلاوة وحكمًا بالسنة المتواترة‏.‏ وسورة الخلع وسورة الحفد‏:‏ هما القنوت في الصبح عند المالكية‏.‏ وقد أوضح صاحب ‏(‏الدر المنثور‏)‏ وغيره تحقيق أنهما كانتا سورتين من كتاب الله ثم نسختا‏.‏

وقد قدمنا ‏(‏في سورة الأنعام‏)‏ أن الذي يظهر لنا أنه الصواب‏:‏ هو أن أخبار الآحاد الصحيحة يجوز نسخ المتواتر بها إذا ثبت تأخرها عنه، وأنه لا معارضة بينهما‏.‏ لأن المتواتر حق، والسنة الواردة بعده إنما بينت شيئًا جديدًا لم يكن موجودًا قبل، فلا معارضة بينهما ألبتة لاختلاف زمنهما‏.‏

فقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً‏}‏‏.‏

يدل بدلالة المطابقة دلالة صريحة على إباحة لحوم الحمر الأهلية‏.‏ لصراحة الحصر بالنفي والإثبات في الآية في ذلك‏.‏ فإذا صرح النَّبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك يوم خيبر في حديث صحيح ‏"‏بأن لحوم الحمر الأهلية غير مباحة‏"‏ فلا معارضة البتة بين ذلك الحديث الصحيح وبيت تلك الآية النازلة قبله بسنين‏.‏ لأن الحديث دل على تحريم جديد، والآية ما نفت تجدد شيء في المستقبل كما هو واضح‏.‏

فالتحقيق إن شاء الله ـ هو جواز نسخ المتواتر بالآحاد الصحيحة الثابت تأخرها عنه، وإن خالف فيه جمهور الأصوليين، ودرج على خلافه وفاقا الجمهور صاحب المراقي بقوله‏:‏

والنسخ بالآحاد للكتاب ليس بواقع على الصواب

ومن هنا تعلم ـ أنه لا دليل على بطلان قول من قال‏:‏ إن الوصية للوالدين والأقربين منسوخة بحديث ‏"‏لا وصية لوارث‏"‏‏.‏ والعلم عند الله تعالى‏.‏

المسألة السابعة ـ اعلم أن التحقيق هو جواز النسخ قبل التمكن من الفعل‏.‏ فإن قيل‏:‏ ما الفائدة في تشريع الحكم أولًا إذا كان سينسخ قبل التمكن من فعله‏؟‏

فالجواب ـ أن الحكمة ابتلاء المكلفين بالعزم على الامتثال‏.‏ ويوضح هذا ـ أن الله أمر إبراهيم أن يذبح ولده، وقد نسخ عنه هذا الحكم بفدائه بذبح عظيم قبل أن يتمكن من الفعل‏.‏ وبين أن الحكمة في ذلك‏:‏ الابتلاء بقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاء الْمُبِينُ وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ‏}‏ ومن أمثلة النسخ قبل التمكن من الفعل‏:‏ نسخ خمس وأربعين صلاة ليلة الإسراء، بعد أن فرضت الصلاة خمسين صلاة، كما هو معروف‏.‏ وقد أشار إلى هذه المسألة في مراقي السعود بقوله‏:‏

والنسخ من قبل وقوع الفعل جاء وقوعًا في صحيح النقل

المسألة الثامنة ـ اعلم أن التحقيق‏:‏

أنه ما كل زيادة على النص تكون نسخًا، وإن خالف في ذلك الإمام أبو حنيفة رحمه الله‏.‏ بل الزيادة على النص قسمان‏:‏ قسم مخالف النص المذكور قبله، وهذه الزيادة تكون نسخًا على التحقيق‏.‏ كزيادة تحريم الحمر الأهلية، وكل ذي ناب من السباع مثلًا، على المحرمات الأربعة المذكورة في آية‏:‏ ‏{‏قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ‏}‏‏.‏ لأن الحمر الأهلية ونحوها لم يسكت عن حكمه في الآية، بل مقتضى الحصر بالنفي والإثبات في قوله‏:‏ ‏{‏فِي مَا أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ‏}‏ ـ صريح في إباحة الحمر الأهلية وما ذكر معها‏.‏ فكون زيادة تحريمها نسخًا أمر ظاهر‏.‏

وقسم لا تكون الزيادة فيه مخالفة للنص، بل تكون زيادة شيء سكت عنه النص الأول، وهذا لا يكون نسخًا، بل بيان حكم شيء كان مسكوتًا عنه‏.‏ كتغريب الزاني البكر، وكالحكم بالشاهد، واليمين في الأموال‏.‏ فإن القرآن في الأول أوجب الجلد وسكت عما سواه، فزاد النَّبي حكمًا كان مسكوتًا عنه، وهو التغريب‏.‏ كما أن القرآن في الثاني فيه ‏{‏فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ‏}‏‏.‏ وسكت عن حكم الشاهد واليمين، فزاد النَّبي صلى الله عليه وسلم حكمًا كان مسكوتًا عنه‏.‏ وإلى هذا أشار في مراقي السعود بقوله‏:‏ وليس نسخًا كل ما أفادا فيما رسا بالنص إلا زديادا

وقد قدمنا ‏(‏في الأنعام‏)‏ في الكلام على قوله‏:‏ ‏{‏قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوْحِيَ إِلَيَّ‏}‏‏.‏

{‏قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ ‏ وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَـذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ إِنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللّهِ لاَ يَهْدِيهِمُ اللّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَأُوْلـئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ مَن كَفَرَ بِاللّهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَـكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّواْ الْحَيَاةَ الْدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ وَأَنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ أُولَـئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَـئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ لاَ جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الآخِرَةِ هُمُ الْخَاسِرونَ ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُواْ مِن بَعْدِ مَا فُتِنُواْ ثُمَّ جَاهَدُواْ وَصَبَرُواْ إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ ‏ يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللّهِ فَأَذَاقَهَا اللّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ وَلَقَدْ جَاءهُمْ رَسُولٌ مِّنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ فَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللّهُ حَلالاً طَيِّباً وَاشْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالْدَّمَ وَلَحْمَ الْخَنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ‏}

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ‏}‏ ‏.‏ أمر الله جل وعلا نبيه صلى الله عليه وسلم في هذه الآية الكريمة‏:‏ أن يقول إن هذا القرآن الذي زعموا أنه افتراء بسبب تبديل الله آية مكان آية ـ أنه نزله عليه روح القدس من ربه جل وعلا‏.‏ فليس مفتريًا له‏.‏ وروح القدس‏:‏ جبريل، ومعناه الروح المقدس‏.‏ أي الطاهر من كل ما لا يليق‏.‏

وأوضح هذا المعنى في آيات كثيرة، كقوله‏:‏ ‏{‏قُلْ مَن كَانَ عَدُوّاً لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللّهِ‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{‏وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{‏وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِن قَبْلِ أَن يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{‏لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ‏}‏،

إلى غير ذلك من الآيات‏.‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ‏}‏ ‏.‏ أقسم جل وعلا في هذه الآية الكريمة‏:‏ أنه يعلم أن الكفار يقولون‏:‏ إن هذا القرآن الذي جاء به النَّبي صلى الله عليه وسلم ليس وحيًا من الله، وإنما تعلمه من بشر من الناس‏.‏

وأوضح هذا المعنى في غير هذا الموضع، كقوله‏:‏ ‏{‏وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{‏إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ‏}‏ أي يرويه محمد صلى الله عليه وسلم عن غيره، وقوله‏:‏ ‏{‏وَلِيَقُولُواْ دَرَسْتَ‏}‏‏.‏ كما تقدم ‏(‏في الأنعام‏)‏‏.‏

وقد اختلف العلماء في تعيين هذا البشر الذي زعموا أنه يعلم النَّبي صلى الله عليه وسلم، وقد صرح القرآن بأنه أعجمي اللسان‏.‏ فقيل‏:‏ هو غلام الفاكه بن المغيرة، واسمه جبر، وكان نصرانيًا فأسلم‏.‏ وقيل‏:‏ اسمه يعيش عبد لبني الحضرمي، وكان يقرأ الكتب الأعجمية‏.‏ وقيل‏:‏ غلام لبني عامر بن لؤي‏.‏ وقيل‏:‏ هما غلامان‏:‏ اسم أحدهما يسار، واسم الآخر جبر، وكانا صيقليين يعملان السيوف، وكانا يقرآن كتابًا لهم‏.‏ وقيل‏:‏ كانا يقرآن التوراة والإنجيل، إلى غير ذلك من الأقوال‏.‏

وقد بين جل وعلا كذبهم وتعنتهم في قولهم‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ‏}‏ بقوله‏:‏ ‏{‏لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَـذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ‏}‏‏.‏ أي كيف يكون تعلمه من ذلك البشر، مع أن ذلك البشر أعجمي اللسان‏.‏ وهذا القرآن عربي مبين فصيح، لا شائبة فيه من العجمة‏.‏ فهذا غير معقول‏.‏

وبين شدة تعنتهم أيضًا بأنه لو جعل القرآن أعجميًا لكذبوه أيضًا وقالوا‏:‏ كيف يكون هذا القرآن أعجميًا مع أن الرسول الذي أنزل عليه عربي‏.‏ وذلك في قوله ‏{‏وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآناً أَعْجَمِيّاً لَّقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ‏}‏ أي أقرآن أعجمي، ورسول عربي‏.‏ فكيف ينكرون أن القرآن أعجمي والرسول عربي، ولا ينكرون أن المعلم المزعوم أعجمي، مع أن القرآن المزعوم تعليمه له عربي‏.‏

كما بين تعنتهم أيضًا، بأنه لو نزل هذا القرآن العربي المبين، على أعجمي فقرأه عليهم عربيًّا لكذبوه أيضًا، مع ذلك الخارق للعادة‏.‏ لشدة عنادهم وتعنتهم، وذلك في قوله‏:‏ ‏{‏وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ فَقَرَأَهُ عَلَيْهِم مَّا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ‏}‏‏.‏

وقوله في هذه الآية الكريمة‏:‏ ‏{‏يُلْحِدُونَ‏}‏ أي يميلون عن الحق‏.‏ والمعنى لسان البشر الذي يلحدون، أي يميلون قولهم عن الصدق والاستقامة إليه ـ أعجمي غير بين، وهذا القرآن لسان عربي مبين، أي ذو بيان وفصاحة‏.‏ وقرأ هذا الحرف حمزة والكسائي ‏{‏يُلْحِدُونَ‏}‏ بفتح الياء والحاء، من لحد الثلاثي‏.‏ وقرأه الباقون ‏{‏يُلْحِدُونَ‏}‏ بضم الياء والحاء، من لحد الثلائي‏.‏ وقرأه الباقون ‏{‏يُلْحِدُونَ‏}‏ بضم الياء وكسر الحاء من ألحد الرباعي، وهما لغتان، والمعنى واحد‏.‏ أي يميلون عن الحق إلى الباطل‏.‏ وأما ‏{‏يُلْحِدُونَ‏}‏ التي في ‏(‏الأعراف، والتي في فصلت‏)‏ فلم يقرأهما بفتح الياء والحاء إلا حمزة وحده دون الكسائي‏.‏ وإنما وافقه الكسائي في هذه التي في ‏(‏النحل‏)‏ وأطلق اللسان على القرآن لأن العرب تطلق اللسان وتريد به الكلام‏.‏ فتؤنثها وتذكرها‏.‏ ومنه قول أعشى باهلة‏:‏ إني أتتني لسان لا أسر بها من علو لا عجب فيها ولا سخر

وقول الآخر‏:‏

لسان الشر تهديها إلينا وخنت وما حسبتك أن تخونا

وقول الآخر‏:‏ أتتني لسان بني عامر أحاديثها بعد قول نكر

ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَاجْعَل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ‏}‏ أي ثناءً حسنًا باقيًا‏.‏ ومن إطلاق اللسان بمعنى الكلام مذكرًا قول الحطيئة‏:‏ ندمت على لسان فات مني فليت بأنه في جوف عكم

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللّهِ فَأَذَاقَهَا اللّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ وَلَقَدْ جَاءهُمْ رَسُولٌ مِّنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ‏}‏‏.‏ قال بعض أهل العلم‏:‏ ‏"‏إن هذا مثلٌ ضربه الله لأهل مكة‏"‏، وهو رواية العوفي عن ابن عباس، وإليه ذهب مجاهد وقتادة، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم، وحكاه مالك عن الزهري رحمهم الله، نقله عنهم ابن كثير وغيره‏.‏

وهذه الصفات المذكورة التي اتصفت بها هذه القرية ـ تتفق مع صفات أهل مكة المذكورة في القرآن‏.‏ فقوله عن هذه القرية ‏{‏كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً‏}‏ قال نظيره عن أهل مكة‏.‏ كقوله‏:‏ ‏{‏أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَماً آمِناً‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{‏أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{‏وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{‏وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{‏وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْناً‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{‏يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِّن كُلِّ مَكَانٍ‏}‏ قال نظيره عن أهل مكة أيضًا‏.‏ كقوله‏:‏ ‏{‏يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{‏لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاء وَالصَّيْفِ فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ‏}‏ فإن رحلة الشتاء كانت إلى اليمن، ورحلة الصيف كانت إلى الشام، وكانت تأتيهم من كلتا الرحلتين أموال وأرزاق‏.‏ ولذا أتبع الرحلتين بامتنانه عليهم‏:‏ بأن أطعمهم من جوعٍ‏.‏ وقوله في دعوة إبراهيم‏:‏ ‏{‏وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَـَذَا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{‏فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ‏}‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللّهِ‏}‏ ذكر نظيره عن أهل مكة في آيات كثيرة‏.‏ كقوله‏:‏ ‏{‏أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُواْ نِعْمَةَ اللّهِ كُفْراً وَأَحَلُّواْ قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ‏}‏‏.‏

وقد قدمنا طرفًا من ذلك في الكلام على قوله تعالى ‏{‏يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللّهِ ثُمَّ يُنكِرُونَهَا‏}‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏فَأَذَاقَهَا اللّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ‏}‏ وقع نظيره قطعًا لأهل مكة‏.‏

لما لجوا في الكفر والعناد، ودعا عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال‏:‏ ‏"‏اللهم اشدد وطأتك على مضر، واجعلها عليهم سنين كسنين يوسف‏"‏ فأصابتهم سنة أذهبت كل شيء، حتى أكلوا الجيف والعلهز ‏(‏وهو وبر البعير يخلط بدمه إذا نحروه‏)‏، وأصابهم الخوف الشديد بعد الأمن‏.‏ وذلك الخوف من جيوش رسول الله صلى الله عليه وسلم، وغزواته وبعوثه وسراياه‏.‏ وهذا الجوع والخوف أشار لهما القرآن على بعض التفسيرات‏.‏ فقد فسر ابن مسعود آية ‏(‏الدخان‏)‏ بما يدل على ذلك‏.‏

قال البخاري في صحيحه‏:‏ باب ‏{‏فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاء بِدُخَانٍ مُّبِينٍ‏}‏ فارتقب‏:‏ فانتظر‏.‏ حدثنا عبدان، عن أبي حمزة، عن الأعمش، عن مسلم، عن مسروق، عن عبد الله قال‏:‏ مضى خمس‏:‏ الدخان، والروم، والقمر، والبطشة، واللزام‏.‏ ‏{‏يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ‏}‏ حدثنا يحيى، حدثنا أبو معاوية‏.‏ عن الأعمش، عن مسلم، عن مسروق قال‏:‏ قال عبد الله‏:‏ ‏"‏إنما كان هذا لأن قريشًا لما استعصوا على النَّبي صلى الله عليه وسلم دعا عليهم بسنين كسني يوسف‏.‏ فأصابهم قحط وجهد، حتى أكلوا العظام‏.‏ فجعل الرجل ينظر إلى السماء فيرى ما بينه وبينها كهيئة الدخان من الجهد‏.‏ فأنزل الله تعالى ‏{‏فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاء بِدُخَانٍ مُّبِينٍ يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ‏}‏ فأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقيل‏:‏ يا رسول الله، استسق الله لمضر? إنك لجريء?‏"‏ فاستسقى فسقوا‏.‏ فنزلت ‏{‏إِنَّكُمْ عَائِدُونَ‏}‏ فلما أصابتهم الرفاهية عادوا إلى حالهم حين أصابتهم الرفاهية‏.‏ فأنزل الله عز وجل‏:‏ ‏{‏يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنتَقِمُونَ‏}‏ يعني يوم بدر‏.‏

باب قوله تعالى‏:‏ ‏{‏رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ‏}‏ حدثنا يحيى، حدثنا وكيع عن الأعمش، عن أبي الضحى، عن مسروق قال‏:‏ دخلت على عبد الله فقال‏:‏ ‏"‏إن من العلم أن تقول لما لا تعلم‏:‏ والله أعلم، إن الله قال لنبيه صلى الله عليه وسلم ‏{‏قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ‏}‏‏"‏ إن قريشًا لما غلبوا النَّبي صلى الله عليه وسلم واستعصوا عليه قال‏:‏ ‏"‏اللهم أعني عليهم بسبع كسبع يوسف‏"‏ فأخذتهم سنة أكلوا فيها العظام والميتة من الجهد، حتى جعل أحدهم يرى ما بينه وبين السماء كهيئة الدخان من الجوع قالوا‏.‏ ‏{‏رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ‏}‏ فقيل له‏:‏ إن كشفنا عنهم عادوا‏.‏ فدعا ربه فكشف عنهم فعادوا، فانتقم الله منهم يوم بدر‏.‏ فذلك قوله‏:‏ ‏{‏فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاء بِدُخَانٍ مُّبِينٍ‏}‏ إلى قوله جل ذكره ‏{‏إِنَّا مُنتَقِمُونَ‏}‏ انتهى بلفظه من صحيح البخاري‏.‏

وفي تفسير ابن مسعود رضي الله عنه لهذه الآية الكريمة ـ ما يدل دلالة واضحة أن ما أذيقت هذه القرية المذكورة في ‏(‏سورة النحل‏)‏ من لباس الجوع أذيقه أهل مكة، حتى أكلوا العظام، وصار الرجل منهم يتخيل له مثل الدخان من شدة الجوع‏.‏ وهذا التفسير من ابن مسعود رضي الله عنه له حكم الرفع‏.‏ لما تقرر في علم الحديث‏:‏ من أن تفسير الصحابي المتعلق بسبب النزول له حكم الرفع‏.‏ كما أشار له صاحب طلعة الأنوار بقوله‏:‏ تفسير صاحب له تعلق بالسبب الرفع له محقق

وكما هو معروف عند أهل العلم‏.‏

وقد قدمنا ذلك في ‏(‏سورة البقرة‏)‏ في الكلام‏:‏ على قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللّهُ‏}‏‏.‏

وقد ثبت في صحيح مسلم أن الدخان من أشراط الساعة‏.‏ ولا مانع من حمل الآية الكريمة على الدخانين‏:‏ الدخان الذي مضى، والدخان المستقبل ـ جمعًا بين الأدلة‏.‏ وقد قدمنا أن التفسيرات المتعددة في الآية إن كان يمكن حمل الآية على جميعها فهو أولى‏.‏ وقد قدمنا أن ذلك هو الذي حققه أبو العباس بن تيمية رحمه الله في رسالته، في علوم القرآن، بأدلته‏.‏

وأما الخوف المذكور في آية النحل ـ فقد ذكر جل وعلا مثله عن أهل مكة أيضًا على بعض تفسيرات الآية الكريمة التي هي ‏{‏وَلاَ يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُواْ تُصِيبُهُم بِمَا صَنَعُواْ قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِّن دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللّهِ إِنَّ اللّهَ لاَ يُخْلِفُ الْمِيعَادَ‏}‏ فقد جاء عن جماعة من السلف تفسير القارعة التي تصيبهم بسرية من سرايا رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ قال صاحب الدر المنثور‏:‏ أخرج الفريابي وابن جرير، وابن مردويه من طريق عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله ‏{‏تُصِيبُهُم بِمَا صَنَعُواْ قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِّن دَارِهِمْ‏}‏‏.‏ وأخرج الطيالسي وابن جرير، وابن المنذر وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ وابن مردويه، والبيهقي في الدلائل، من طريق سعيد بن جبير رضي الله عنه، عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله‏:‏ ‏"‏‏{‏وَلاَ يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُواْ تُصِيبُهُم بِمَا صَنَعُواْ قَارِعَةٌ‏}‏ قال‏:‏ سرية ‏{‏قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِّن دَارِهِمْ‏}‏ قال‏:‏ أنت يا محمد ‏{‏حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللّهِ‏}‏ قال فتح مكة‏"‏‏.‏ وأخرج ابن مردويه، عن أبي سعيد رضي الله عنه في قوله ‏"‏ ‏{‏تُصِيبُهُم بِمَا صَنَعُواْ قَارِعَةٌ‏}‏ قال‏:‏ سرية من سرايا رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏{‏أَوْ تَحُلُّ‏}‏ يا محمد ‏{‏قَرِيباً مِّن دَارِهِمْ‏}‏‏"‏‏.‏ وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير، وابن المنذر وأبو الشيخ، والبيهقي في الدلائل، عن مجاهد رضي الله عنه قال‏:‏ ‏"‏‏{‏لَّخَبِيرٌ الْقَارِعَةُ‏}‏ السرايا ‏{‏أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِّن دَارِهِمْ‏}‏ قال الحديبية ‏{‏حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللّهِ‏}‏ قال‏:‏ فتح مكة‏"‏‏.‏ وأخرج ابن جرير عن عكرمة رضي الله عنه في قوله‏:‏ ‏{‏وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا‏}‏ ـ نزلت بالمدينة في سرايا النَّبي صلى الله عليه وسلم‏.‏ أو تحل أنت يا محمد قريبًا من دراهم اهـ محل الغرض منه‏.‏

فهذا التفسير المذكور في آية ‏(‏الرعد‏)‏ هذه، والتفسير المذكور قبله في آية ‏(‏الدخان‏)‏ ـ يدل على أن أهل مكة أبدلوا بعد سعة الرزق بالجوع، وبعد الأمن والطمأنينة بالخوف‏.‏ كما قال في القرية المذكورة ‏{‏وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللّهِ فَأَذَاقَهَا اللّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ‏}‏‏.‏ وقوله في القرية المذكورة ‏{‏وَلَقَدْ جَاءهُمْ رَسُولٌ مِّنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ‏}‏ ـ لا يخفى أنه قال مثل ذلك عن قريش في آيات كثيرة‏.‏ كقوله‏:‏ ‏{‏لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{‏لَقَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ‏}‏‏.‏

والآيات المصرحة بكفرهم وعنادهم كثيرة جدًا‏.‏ كقوله‏:‏ ‏{‏أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ‏}‏ ‏{‏وَانطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{‏وَإِذَا رَأَوْكَ إِن يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولاً إِن كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلَا أَن صَبَرْنَا عَلَيْهَا‏}‏، والآيات بمثل ذلك كثيرة جدًا‏.‏

فمجموع ما ذكرنا يؤيد قول من قال‏:‏ إن المراد بهذه القرية المضروبة مثلًا في آية ‏(‏النحل‏)‏، هذه‏:‏ هي مكة‏.‏ وروي عن حفصة وغيرها‏:‏ ‏"‏أنها المدينة، قالت ذلك لما بلغها قتل عثمان رضي الله عنه‏"‏‏.‏ وقال بعض العلماء‏:‏ هي قرية غير معينة، ضربها الله مثلًا للتخويف من مقابلة نعمة الأمن والاطمئنان والرزق، بالكفر والطغيان‏.‏ وقال من قال بهذا القول‏:‏ إنه يدل عليه تنكير القرية في الآية الكريمة في قوله‏:‏ ‏{‏وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً قَرْيَةً‏}‏‏.‏

قال مقيدة عفا الله عنه‏:‏ وعلى كل حال، فيجب على كل عاقل أن يعتبر بهذا المثل، وألا يقابل نعم الله بالكفر والطغيان‏.‏ لئلا يحل به ما حل بهذه القرية المذكورة‏.‏ ولكن الأمثال لا يعقلها عن الله إلا من أعطاه الله علمًا‏.‏ لقوله‏:‏ ‏{‏وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ‏}‏‏.‏

وفي قوله في هذه الآية الكريمة ‏{‏قَرْيَةٌ‏}‏ وجهان من الإعراب‏.‏

أحدهما ـ أنه يدل من قوله ‏{‏مَثَلًا‏}‏‏.‏ الثاني ـ أن ‏{‏ضُرِبَ‏}‏ مضمن معنى جعل، وأن ‏{‏قَرْيَةٌ‏}‏ هي المفعول الأول، و‏{‏مَثَلًا‏}‏ المفعول الثاني‏.‏ وإنما أخرت قرية لئلا يقع الفصل بينها وبين صفاتها المذكورة في قوله‏:‏ ‏{‏كَانَتْ آمِنَةً‏}‏ الخ‏.‏

وقوله في هذه الآية الكريمة‏:‏ ‏{‏مُّطْمَئِنَّةً‏}‏ أي لا يزعجها خوف‏.‏ لأن الطمأنينة مع الأمن، والانزعاج والقلق مع الخوف‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏رَغَداً‏}‏ أي واسعًا لذيذًا‏.‏ والأنعام قيل جمع نعمة كشدة وأشد‏.‏ أو على ترك الاعتداد بالتاء‏.‏ كدرع وأدرع‏.‏ أو جمع نعم كبؤس وأبؤس‏.‏ كما تقدم في ‏(‏سورة الأنعام‏)‏ في الكلام على قوله‏:‏ ‏{‏حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ‏}‏‏.‏

وفي هذه الآية الكريمة سؤال معروف، هو أن يقال‏:‏ كيف أوقع الإذاقة على اللباس في قوله ‏{‏فَأَذَاقَهَا اللّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ‏}‏‏.‏ وروي أن ابن الراوندي الزنديق قال لابن الأعرابي إمامِ اللغة الأدب‏:‏ هل يُذاق اللباس‏؟‏? يريد الطعن في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَأَذَاقَهَا اللّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ‏}‏‏.‏ فقال له ابن الأعرابي‏:‏ لا بأس أيها النسناس? هب أن محمدًا صلى الله عليه وسلم ما كان نبيًا‏!‏ أما كان عربيًا‏؟‏

قال مقيده عفا الله عنه‏:‏ والجواب عن هذا السؤال ظاهر، وهو أنه أطلق اسم اللباس على ما أصابهم من الجوع والخوف‏.‏ لأن آثار الجوع والخوف تظهر على أبدانهم، وتحيط بها كالباس‏.‏ ومن حيث وجدانهم ذلك اللباس المعبرَّ به عن آثار الجوع والخوف، أوقع عليه الإذاقة، فلا حاجة إلى ما يذكره البيانيون من الاستعارات في هذه الآية الكريمة وقد أوضحنا في رسالتنا التي سميناها ‏(‏منع جواز المجاز في المنزل للتعبد والإعجاز‏)‏‏:‏ أنه لا يجوز لأحد أن يقول إن في القرآن مجازًا، وأوضحنا ذلك بأدلته، وبينا أن ما يسميه البيانيون مجازًا أنه أسلوب من أساليب اللغة العربية‏.‏

وقد اختلف أهل البيان في هذه الآية، فبعضهم يقول‏:‏ فيها استعارة مجردة‏.‏ يعنون أنها جيء فيها بما يلائم المستعار له‏.‏ وذلك في زعمهم أنه استعار اللباس لما غشيهم من بعض الحوادث كالجوع والخوف، بجامع اشتماله عليهم كاشتمال اللباس على اللابس على سبيل الاستعارة التصريحية الأصلية التحقيقية، ثم ذكر الوصف، الذي هو الإذاقة ملائمًا للمستعار له، الذي هو الجوع والخوف‏.‏ لأن إطلاق الذوق على وجدان الجوع والخوف جرى عندهم مجرى الحقيقة لكثرة الاستعمال‏.‏

فيقولون‏:‏ ذاق البؤس والضر، وأذاقه غيره إياهما‏.‏ فكانت الاستعارة مجردة لذكر ما يلائم المستعار له، الذي هو المشبه في الأصل في التشبيه الذي هو أصل الاستعارة‏.‏ ولو أريد ترشيح هذه الاستعارة في زعمهم لقيل‏:‏ فسكاها‏.‏ لأن الإتيان بما يلائم المستعار منه الذي هو المشبه به في التشبيه الذي هو أصل الاستعارة يسمى ‏"‏ترشيحًا‏"‏ والكسوة تلائم اللباس، فذكرها ترشيح للاستعارة‏.‏ قالوا‏:‏ وإن كانت الاستعارة المرشحة أبلغ من المجردة، فتجريد الاستعارة في الآية أبلغ‏.‏ من حيث إنه روعي المستعار له الذي هو الخوف والجوع، وبذكر الإذاقة المناسبة لذلك ليزداد الكلام وضوحًا‏.‏